المادة    
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
قال رحمه الله: (ولا شك أنه يلزم من عدم طاعة الجوارح عدم طاعة القلب، إذ لو أطاع القلب وانقاد لأطاعت الجوارح وانقادت، ويلزم من عدم طاعة القلب وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة، قال صلى الله عليه وسلم: ( إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد كله، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد كله، ألا وهي القلب )، فمن صلح قلبه صلح جسده قطعاً بخلاف العكس، وأما كونه يلزم من زوال جزئه زوال كله، فإن أريد أن الهيئة الاجتماعية لم تبق مجتمعة كما كانت فمسلم، ولكن لا يلزم من زوال بعضها زوال سائر الأجزاء، فيزول عنه الكمال فقط).
ثم قال: [والأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه من الكتاب والسنة والآثار السلفية كثيرة جداً: منها: قوله تعالى: (( وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ))[الأنفال:2]. (( وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى ))[مريم:76]. (( وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا ))[المدثر:31]. (( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ))[الفتح:4]. (( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ))[آل عمران:173].
وكيف يقال في هذه الآية والتي قبلها: إن الزيادة باعتبار زيادة المؤمن به؟ فهل في قول الناس: (قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) زيادة مشروع؟ وهل في إنزال السكينة في قلوب المؤمنين زيادة مشروع؟ وإنما أنزل الله السكينة في قلوب المؤمنين مرجعهم من الحديبية ؛ ليزدادوا طمأنينة ويقيناً، ويؤيد ذلك قوله تعالى: (( هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ ))[آل عمران:167]، وقال تعالى: (( وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ))[التوبة:124-125]
.
وأما ما رواه الفقيه أبو الليث السمرقندي رحمه الله في تفسيره عند هذه الآية فقال: حدثنا الفقيه ، قال: حدثنا محمد بن الفضل و أبو القاسم الساباذي ، قالا: حدثنا فارس بن مردويه ، قال: حدثنا محمد بن الفضل بن العابد ، قال: حدثنا يحيى بن عيسى ، قال: حدثنا أبو مطيع عن حماد بن سلمة عن أبي المهزم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ( جاء وفد ثقيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! الإيمان يزيد وينقص؟ فقال: لا، الإيمان مكمل في القلب، زيادته كفر ونقصانه شرك ).
فقد سئل شيخنا الشيخ عماد الدين بن كثير رحمه الله عن هذا الحديث فأجاب: بأن الإسناد من أبي الليث إلى أبي مطيع مجهولون لا يعرفون في شيء من كتب التواريخ المشهورة، وأما أبو مطيع فهو: الحكم بن عبد الله بن مسلمة البلخي ، ضعفه أحمد بن حنبل و يحيى بن معين و عمرو بن علي الفلاس و البخاري و أبو داود و النسائي و أبو حاتم الرازي و أبو حاتم محمد بن حبان البستي و العقيلي و ابن عدي و الدارقطني وغيرهم.
وأما أبو المهزم الراوي عن أبي هريرة ، وقد تصحف على الكتاب واسمه: يزيد بن سفيان ، فقد ضعفه أيضاً غير واحد، وتركه شعبة بن الحجاج ، وقال النسائي : متروك وقد اتهمه شعبة بالوضع، حيث قال: لو أعطوه فلسين لحدثهم بسبعين حديثاً!].
يقول الشارح رحمه الله: في بيان أهمية العمل، وأن من ترك جزءاً من العمل فلا بد أن يترك الجزء الآخر الذي يرتبط به، فإذا ترك الإنسان عمل الجوارح -وهو موضع المعركة بين المرجئة الفقهاء أو الحنفية وأهل السنة - فهو لا بد تارك لعمل القلب؛ لأن عمل الجوارح وعمل القلب متلازمان؛ فلا يمكن أن يعمل قلب أحد إلا وتعمل جوارحه، أي: إذا انقاد القلب وأيقن وأخلص وصدق ظهر ذلك على الجوارح في شكل العمل الظاهر المعروف من أداء الفرائض الواجبة واجتناب المحرمات، وإذا انتفى عمل القلب فإنه لا ريب ينتفي تصديق القلب الذي هو الأصل في الإيمان، وأساس الإيمان الذي إذا انتفى فلا شك في كفر صاحبه، ولا شك في كفر من انتفى التصديق والإقرار من قلبه بين الفريقين أو الطائفتين المختلفتين وإن قال بلسانه، وحينئذٍ لا يكون هذا التصديق تصديقاً، وإنما يكون مجرد علم أو مجرد معرفة، وهذا لا يجدي شيئاً، وقد تقدم هذا في بيان أجزاء وشعب الإيمان بأن هذا النوع لا إيمان له، بل إن الله تبارك وتعالى قال: (( يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ))[البقرة:146]، وهذا من أعظم الأدلة على كفر أهل الكتاب، فهم عرفوا النبي عليه الصلاة والسلام، لكنهم لم يتبعوه وينقادوا لأمره، فتلك المعرفة المجردة أو مجرد العلم كما قال أبو طالب في شعره:
ولقد علمت أن دين محمد                        من خير أديان البرية دينا
فمجرد العلم أن يقول أحد: أنا أعلم أن هذا الدين حق، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم حق، فهذا لا يجدي شيئاً، وليس إيماناً؛ لأنه يمكن أن يقع من أكفر الكفار، كما يقع من أتقى الأتقياء، وإنما العبرة بتصديق القلب، وهو درجة أعظم من مجرد معرفة القلب، ثم بعمل القلب، ثم بعمل الجوارح، فيستدل أهل السنة بهذا على إبطال مذهب المرجئة الحنفية: بأن من ترك عمل الجوارح ليس كامل الإيمان، إذ يمكن أن يكون كامل الإيمان، ولكنه بتركه الجوارح يكون ترك الكمال فقط كما سبق من كلامهم، فنقول: هذا لا يمكن، بل الذي يترك عمل الجوارح هو تارك ولا بد لعمل القلب، وترك عمل القلب لا بد أن يؤثر أيضاً فيترك صاحبه تصديق وإقرار القلب، فيكون لا إيمان له.
  1. كفر من ترك جنس العمل

    ومن أجلى الأدلة على ذلك: أن ترك عمل واحد من الأعمال الظاهرة يوجب تكفير فاعله، كترك الصلاة الذي أجمع عليها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت الإجماع ونقل نقلاً صحيحاً، فلا يجوز العدول عنه بعد ذلك، وأما تأويلهم: بأن مرادهم تركها جحداً لا من تركها تهاوناً وكسلاً أو ما أشبه ذلك، فهذا تأويل لا يليق بمن كان في مثل فهم الصحابة الكرام والتابعين الذين نقلوا هذا الإجماع؛ لأن الكلام في التارك وليس في الجاحد، إذ الجاحد له حكم آخر، فهو كافر باتفاق الجميع، سواء جحد الصلاة أو غيرها مما هو معلوم لمثله، وعلم أنه من دين الله، ولذلك كلام السلف الصحابة إنما هو في الترك، وهو شيء آخر، والمراد أن نؤكد هذه القضية، وأن نعرف أن من ترك جنس العمل فهو كافر؛ فالإنسان الذي يعيش في هذه الحياة، ولم يصل ولم يصم ولم يحج ولم يؤد الزكاة ولم يعمل أي عمل من أعمال الإيمان، إلا أنه يدعي أنه مسلم، فهذا لا يكون مؤمناً أبداً، وهو كافر، لكن بالنسبة لإجراء الأحكام الدنيوية لمن لا يعلم حاله، لمن يراه وهو يمشي بين المسلمين ويقول: أنا مسلم، ويسمي نفسه باسم من الأسماء الإسلامية، ويقول أحياناً: أشهد أن لا إله إلا الله أو ما أشبه ذلك، فهؤلاء نعاملهم بحسب الظاهر، وما أمرنا أن نتتبع أحوال الناس وبواطنهم، لكن من عرف هذا منه فإن له معاملة الكافر، فلا تؤكل ذبيحته ولا يزوج، ولا يصلى عليه إذا مات، وليدع المسلم غيره ليتولى ذلك إذا مات، فهذا هو الذي يجب أن يعلم.
  2. التمييز بين أحكام الدنيا والآخرة

    وأما ما قد يقع في أذهان بعض الشباب من الاختلال بسبب الخلط بين أحكام الدنيا وأحكام الآخرة فهذا أمر آخر، فنقول: لا ينبغي أن يقع هذا الخلط، فأحكام الدنيا تجري على الظاهر، ولا يضرنا في ديننا لو اعتقدنا أن فلاناً فيه خير بما ظهر منه، أو أنه مسلم بناء على ما ظهر منه، وهو في الحقيقة كافر، إلا إذا أظهر الكفر فجادلنا عنه وعن الذين يختانون أنفسهم كما ذكر الله تبارك وتعالى عن الكافرين، فهذا قطعاً لا يجوز، أما إذا كان الإنسان قد حكم بظاهر ما رأى ولم يعلم غير ذلك، فإنه لا يلزم كل أحد من أهل السنة أن يعلم أهل البدعة والنفاق والشرك بأعيانهم، ولو كان الأمر كذلك لكان هذا من أعظم المشقة، ولتعذر هذا حتى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يكن يعلم كل المنافقين، فمنهم من أطلعه الله تبارك وتعالى عليه: (( لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ))[التوبة:101]، ومنهم من أرشده الله سبحانه وتعالى، وبين له أنه يمكن أن يعرفهم في لحن القول، ومنهم من كان واضح النفاق وظاهره، والصحابة رضوان الله تعالى عليهم منهم كما قال الله عز وجل: (( وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ))[التوبة:47]، أي: منهم من كان يستمع لهم، ومنهم من كان يدافع عنهم، وربما جادل أحياناً عنهم، ولذلك نجد أن بعضهم قد يقول: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! إن فلاناً منافق، وذلك كما قال عمر رضي الله تعالى لـحاطب وهو ليس كذلك، فهذا اجتهاد منهم، فيحكمون وقد لا يحكمون، فهذه المسألة وهي إجراء الأحكام في الدنيا أمر اجتهادي فيه سعة، لكن من أظهر الكفر وأعلنه وأباح به، فهذا لا يجوز أن يختلف فيه، غير أن هذا موضوع آخر، والموضوع الذي نريد أن نعرفه ويهمنا هو موضوع إثبات الإيمان على الحقيقة في الواقع وفي نفس الأمر، هل هذا مؤمن أم غير مؤمن؟ فالذي عاش عمره لم يصل ولم يصم ولم يزك ولم يحج ولم يفعل شيئاً من أعمال الطاعات، فهذا لا يكون مؤمناً في الحقيقة؛ لأنه بانتفاء أعمال الجوارح انتفى عمل القلب، وبانتفاء عمل القلب انتفى تصديقه، حتى لو قلنا: إن الإيمان هو تصديق القلب فقط كما قالوا، وإلا فليس كذلك، فنقول: حتى لو جعلتم هذه الأعمال لوازم وثمرات وليست داخلة في الحقيقة، فإن انتفاء هذه اللوازم ينبني عليه انتفاء الملزوم.